الاثنين، سبتمبر 24، 2012

تلبيس ابليس - مصلحة الدعوة -

سئل شيخ الإسلام علامة الزمان. تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني رضي الله عنه.


===========================================================
عن "جماعة" يجتمعون على قصد الكبائر: من القتل، وقطع الطريق، والسرقة، وشرب الخمر، وغير ذلك. ثم إن شيخاً من المشائخ المعروفين بالخير واتباع السنة قصد منع المذكورين من ذلك، فلم يمكنه إلا أن يقيم لهم سماعا يجتمعون فيه بهذه النية، وهو بدف بلا صلاصل ، وغناء المغني بشعر مباح بغير شبابة ، فلما فعل هذا تاب منهم جماعة، واصبح من لا يصلي ويسرق ولا يزكي، يتورع عن الشبهات، ويؤدي المفروضات، ويجتنب المحرمات. فهل يباح فعل هذا السماع لهذا الشيخ على هذا الوجه، لما يترتب عليه من المصالح؟ مع أنه لا يمكنه دعوتهم إلا بهذا؟

============================================================

فأجاب:

الحمد لله رب العالمين.

اصل جواب هذه المسألة وما أشبهها: أن يُعلم أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً.

 وأنه أكمل له ولأمته الدين، كما قال تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3].
وأنه بشر بالسعادة لمن أطاعه والشقاوة لمن عصاه، فقال تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً} [النساء: 69]، وقال تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداًْ} [الجن: 23].

وأمر الخلق أن يردوا ما تنازعوا فيه من دينهم إلى ما بعثه به، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]. واخبر أنه يدعو إلى الله وإلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى: {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} [يوسف: 108]، وقال تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور} [الشورى: 52 - 53].

وأخبر أنه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث. كما قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل * يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث. ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 156 - 157].

وقد أمر الله الرسول صلى الله عليه وسلم بكل معروف ونهى عن كل منكر. وأحل كل طيب. وحرم كل خبيث. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (ما بعث الله نبياً إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم) ، وثبت عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون. قال فقلنا يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا. فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور. فإن كل بدعة ضلالة) . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به) . وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) .

وشواهد هذا "الأصل العظيم الجامع" من الكتاب والسنة كثيرة وترجم عليه أهل العلم في الكتب. "كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة" كما ترجم عليه البخاري والبغوي وغيرهما. فمن اعتصم بالكتاب والسنة كان من أولياء الله المتقين. وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين. وكان السلف - كمالك وغيره - يقولون: (السنة كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق)، وقال الزهري: (كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة).

إذا عُرف هذا فمعلوم أن ما يهدي الله به الضالين ويرشد به الغاوين ويتوب به على العاصين، لابد أن يكون فيما بعث الله به رسوله من الكتاب والسنة ، وإلا فإنه لو كان ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفي في ذلك، لكان دين الرسول ناقصاً، محتاجا تتمة.
 وينبغي أن يعلم أن الأعمال الصالحة أمر الله بها أمر إيجاب أو استحباب. والأعمال الفاسدة نهى الله عنها.
والعمل إذا اشتمل على مصلحة ومفسدة، فإنّ الشارع حكيم فإن غلبت مصلحته على مفسدته شرعه، وإن غلبت مفسدته على مصلحته لم يشرعه؛ بل نهى عنه . كما قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم. والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216]، وقال تعالى: {يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة: 219]، ولهذا حرمهما الله تعالى بعد ذلك.

وهكذا ما يراه الناس من الأعمال مقرباً إلى الله، ولم يشرعه الله ورسوله؛ فإنه لا بد أن يكون ضرره أعظم من نفعه. وإلا فلو كان نفعه أعظم غالباً على ضرره لم يهمله الشارع؛ فإنه صلى الله عليه وسلم حكيم، لا يهمل مصالح الدين، ولا يفوت المؤمنين ما يقربهم إلى رب العالمين.
إذا تبين هذا فنقول للسائل:

إن الشيخ المذكور قصد أن يتوب المجتمعين على الكبائر، فلم يمكنه ذلك إلا بما ذكره من الطريق البدعي، يدل أن الشيخ جاهل بالطرق الشرعية التي بها تتوب العصاة، أو عاجز عنها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين كانوا يدعون من هو شر من هؤلاء من أهل الكفر والفسوق والعصيان بالطرق الشرعية، التي أغناهم الله بها عن الطرق البدعية.

فلا يجوز أن يقال: إنه ليس في الطرق الشرعية التي بعث الله بها نبيه ما يتوب به العصاة، فإنه قد علم بالاضطرار والنقل المتواتر أنه قد تاب من الكفر والفسوق والعصيان من لا يحصيه إلا الله تعالى من الأمم بالطرق الشرعية، التي ليس فيها ما ذكر من الاجتماع البدعي؛ بل السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان - وهم خير أولياء الله المتقين، من هذه الأمة - تابوا إلى الله تعالى بالطرق الشرعية، لا بهذه الطرق البدعية. وأمصار المسلمين وقراهم قديماً وحديثاً مملوءة ممن تاب إلى الله واتقاه، وفعل ما يحبه الله ويرضاه بالطرق الشرعية لا بهذه الطرق البدعية.

فلا يمكن أن يقال: أن العصاة لا تمكن توبتهم إلا بهذه الطرق البدعية، بل قد يقال: أن في الشيوخ من يكون جاهلا بالطرق الشرعية، عاجزاً عنها، ليس عنده علم بالكتاب والسنة، وما يخاطب به الناس، ويسمعهم إياه، مما يتوب الله عليهم، فيعدل هذا الشيخ عن الطرق الشرعية إلى الطرق البدعية. إما مع حسن القصد. إن كان له دين وإما أن يكون غرضه الترأس عليهم، وأخذ أموالهم بالباطل، كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من ا لأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله} [التوبة: 34]، فلا يعدل أحد عن الطرق الشرعية إلى البدعية إلا لجهل، أو عجز، أو غرض فاسد .

وإلا فمن المعلوم أن سماع القرآن هو سماع النبيين، والعارفين، والمؤمنين. قال تعالى في النبيين: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل، وممن هدينا واجتبينا، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً} [مريم : 58].

وقال تعالى في أهل المعرفة: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} [المائدة: 83]. وقال تعالى في حق أهل العلم: {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجداً * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً} [الإسراء: 107 - 109]. وقال في المؤمنين: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 2 - 4]، وقال تعالى: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله} [الزمر: 23].

وبهذا السماع هدى الله العباد، واصلح لهم أمر المعاش والمعاد. وبه بعث الرسول صلى الله عليه وسلم. وبه أمر المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. وعليه كان يجتمع السلف، كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اجتمعوا أمروا رجلاً منهم أن يقرأ وهم يستمعون، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى: (ذكرنا ربنا). فيقرأ أبو موسى وهم يستمعون.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ، فجعل يستمع لقراءته، وقال: (لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود) . وقال: (مررت بك البارحة وأنت تقرأ فجعلت أستمع لقراءتك، فقال: لو علمت أنك تسمعني لحبرته لك تحبيراً) . أي لحسنته لك تحسيناً.

وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: (اقرأ علي القرآن، فقال: أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! فقال: إني أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟} قال لي: حسبك، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان من البكاء)  وعلى هذا السماع كان يجتمع القرون الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: (خير القرون الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) .

ولم يكن في السلف الأول سماع يجتمع عليه أهل الخير إلا هذا. لا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بالشام، ولا بمصر، والعراق؛ وخراسان والمغرب. وإنما حدث السماع المبتدع بعد ذلك وقد مدح الله أهل هذا السماع، المقبلين عليه. وذم المعرضين عنه. واخبر أنه سبب الرحمة. فقال تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف: 204]. وقال تعالى: {والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً} [الفرقان: 73]، وقال تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق) [الحديد: 16]. وقال تعالى: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} [الأنفال: 23]، وقال تعالى (فما لهم عن التذكرة معرضين. كأنهم حمرٌ مستنفرة، فرت من قسورة} [المدثر: 49 - 51]، وقال تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه}[الكهف: 57]، وقال تعالى: {فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب: لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً؟ قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى}[طه: 123 - 126]. ومثل هذا في القرآن كثير يأمر الناس باتباع ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، ويأمرهم بسماع ذلك.

وقد شرع الله تعالى السماع للمسلمين: في المغرب، والعشاء، والفجر. قال تعالى: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [الإسراء: 78]. وبهذا مدح عبد الله بن رواحة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال:

وفينا رسول الله يتلو كتابه                  إذا انشق معروف من الفجر ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه       إذ استثقلت بالكافرين المضاجع
أتى بالهدى بعد العمى فقلوبنا                 به موقنات أنما قال واقع

وأحوال أهل هذا السماع مذكورة في كتاب الله، من وجل القلوب، ودمع العيون، واقشعرار الجلود. وإنما حدث سماع الأبيات بعد هذه القرون، فأنكره الأئمة، حتى قال: (الشافعي رحمه الله خلَّفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة، يسمونه التغبير، يزعمون أنه يرقق القلوب، يصدون به الناس عن القرآن).

وسئل الإمام أحمد عنه فقال: (محدث)، فقيل له: أنجلس معهم فيه؟ فقال: (لا يجلس معهم).

والنهي إنما يتوجه إلى الاستماع دون السماع، ولهذا لو مر الرجل بقوم يتكلمون بكلام محرم لم يجب عليه سد أذنيه؛ لكن ليس له أن يستمع من غير حاجة، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر بسد أذنيه لما سمع زمارة الراعي ، لأنه لم يكن مستمعاً بل سامعاً.
وقول السائل وغيره: هل هو حلال؟ أو حرام؟ لفظ مجمل فيه تلبيس، يشتبه الحكم فيه، حتى لا يحسن كثير من المفتين تحرير الجواب فيه؛ وذلك أن الكلام في السماع وغيره من الأفعال على ضربين:

أحدهما: أنه هل هو محرم؟ أو غير محرم؟ بل يفعل كما يفعل سائر الأفعال التي تلتذ بها النفوس، وإن كان فيها نوع من اللهو واللعب، كسماع الأعراس، وغيرها. مما يفعله الناس لقصد اللذة واللهو، لا لقصد العبادة والتقرب إلى الله.
والنوع الثاني: أن يفعل على وجه الديانة، والعبادة، وصلاح القلوب، وتجريد حب العباد لربهم، وتزكية نفوسهم، وتطهير قلوبهم. وأن تحرك من القلوب الخشية، والإنابة، والحب، ورقة القلوب، وغير ذلك مما هو من جنس العبادات، والطاعات، لا من جنس اللعب والملهيات.

فيجب الفرق بين سماع المتقربين، وسماع المتلعبين، وبين السماع الذي يفعله الناس في الأعراس، والأفراح، ونحو ذلك من العادات، وبين السماع الذي يفعل لصلاح القلوب، والتقرب إلى رب السموات فإن هذا يُسأل عنه: هل هو قربة وطاعة؟ وهل هو طريق إلى الله؟ وهل لهم بد من أن يفعلوه لما فيه من رقة قلوبهم، وتحريك وجدهم لمحبوبهم، وتزكية نفوسهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، ونحو ذلك من المقاصد التي تقصد بالسماع؟ كما أن النصارى يفعلون مثل هذا السماع في كنائسهم على وجه العبادة والطاعة، لا على وجه اللهو واللعب.

إذا عرف هذا فحقيقة السؤال: هل يباح للشيخ أن يجعل هذه الأمور التي هي: إما محرمة؟ أو مكروهة؟ أو مباحة؟ قربة وعبادة وطاعة، وطريقة إلى الله يدعو بها إلى الله، ويتوب العاصين، ويرشد به الغاوين، ويهدي به الضالين.
ومن المعلوم أن الدين له "أصلان" فلا دين إلا ما شرع الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله. والله تعالى عاب على المشركين أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، وشرعوا ديناً لم يأذن به الله.

ولو سئل العالم عمن يعدو بين جبلين: هل يباح له ذلك؟ قال: نعم، فإذا قيل: إنه على وجه العبادة كما يسعى بين الصفا والمروة، قال: إن فعله على هذا الوجه حرام منكر، يستتاب فاعله، فإن تاب وإلا قتل .
ولو سئل: عن كشف الرأس، ولبس الإزار، والرداء: أفتى أن هذا جائز، فإذا قيل: إنه يفعله على وجه الإحرام. كما يحرم الحاج. قال: إن هذا حرام منكر.
ولو سئل: عمن يقوم في الشمس. قال: هذا جائز. فإذا قيل: إنه يفعله على وجه العبادة. قال: هذا منكر. كما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائماً في الشمس. فقال: (من هذا؟)، قالوا: هذا أبو إسرائيل يريد أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ولا يستظل، ولا يتكلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مروة فليتكلم، وليجلس، وليستظل وليتم صومه) ؛ فهذا لو فعله لراحة، أو غرض مباح لم يُنه عنه: لكن لما فعله على وجه العبادة نهي عنه.

وكذلك لو دخل الرجل إلى بيته من خلف البيت، لم يحرم عليه ذلك، ولكن إذا فعل ذلك على أنه عبادة. كما كانوا يفعلون في الجاهلية: كان أحدهم إذا أحرم لم يدخل تحت سقف، فنهوا عن ذلك، كما قال تعالى: {ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها}، فبين سبحانه أن هذا ليس ببر، وإن لم يكن حراماً، فمن فعله على وجه البر والتقرب إلى الله كان عاصياً، مذموماً، مبتدعاً، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن العاصي يعلم أنه عاص فيتوب، والمبتدع يحسب أن الذي يفعله طاعة فلا يتوب.
ولهذا من حضر السماع للعب واللهو لا يعده من صالح عمله، ولا يرجو به الثواب، وأما من فعله على أنه طريق إلى الله تعالى فإنه يتخذه ديناً، وإذا نهى عنه كان كمن نهى عن دينه ، ورأى أنه قد انقطع عن الله، وحرم نصيبه من الله تعالى إذا تركه. فهؤلاء ضُلاّل باتفاق علماء المسلمين، ولا يقول أحد من أئمة المسلمين: إن اتخاذ هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى أمر مباح؛ بل من جعل هذا ديناً وطريقاً إلى الله تعالى فهو ضال،مفتر، مخالف لإجماع المسلمين، ومن نظر إلى ظاهر العمل وتكلم عليه، ولم ينظر إلى فعل العامل ونيته كان جاهلاً متكلماً في الدين بلا علم.

فالسؤال عن مثل هذا أن يقال: هل ما يفعله هؤلاء طريق وقربة وطاعة لله تعالى يحبها الله ورسوله أم لا؟ وهل يثابون على ذلك أم لا؟ وإذا لم يكن هذا قربة وطاعة وعبادة لله، ففعلوه على أنه قربة وطاعة وعبادة وطريق إلى الله تعالى. هل يحل لهم هذا الاعتقاد؟ وهذا العمل على هذا الوجه؟

وإذا كان السؤال على هذا الوجه لم يكن للعالم المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: إن هذا من القرب والطاعات. وأنه من أنواع العبادات، وأنه من سبيل الله تعالى وطريقه الذي يدعو به هؤلاء إليه، ولا أنه مما أمر الله تعالى به عباده: لا أمر إيجاب، ولا أمر استحباب، وما لم يكن من الواجبات والمستحبات فليس هو محموداً، ولا حسنة، ولا طاعة، ولا عبادة، باتفاق المسلمين.

فمن فعل ما ليس بواجب ولا مستحب على أنه من جنس الواجب أو المستحب فهو ضال مبتدع، وفعله على هذا الوجه حرام بلا ريب . لا سيما كثير من هؤلاء الذين يتخذون هذا السماع المحدث طريقاً يقدمونه على سماع القرآن وجداً وذوقاً. وربما قدموه عليه اعتقاداً، فتجدهم يسمعون القرآن بقلوب لاهية، وألسن لاغية، وحركات مضطربة، وأصوات لا تقبل عليه قلوبهم، ولا ترتاح إليه نفوسهم، فإذا سمعوا "المكاء" و"التصدية"  أصغت القلوب، واتصل المحبوب بالمحب، وخشعت الأصوات، وسكنت الحركات، فلا سعلة، ولا عطاس، ولا لغط، ولا صياح، وإن قرؤوا شيئاً من القرآن، أو سمعوه كان على وجه التكلف والسخرة، كما  يسمع الإنسان ما لا حاجة له به، ولا فائدة له فيه، حتى إذا ما سمعوا مزمار الشيطان أحبوا ذلك، وأقبلوا عليه، وعكفت أرواحهم عليه.

فهؤلاء جند الشيطان، وأعداء الرحمن، وهم يظنون أنهم من أولياء الله المتقين، وحالهم أشبه بحال أعداء الله المنافقين؛ فإن المؤمن يحب ما أحبه الله تعالى، ويبغض ما أبغض الله تعالى، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله، وهؤلاء يحبون ما أبغض الله، ويبغضون ما أحب الله، ويوالون أعداء الله، ويعادون أولياءه ، ولهذا يحصل لهم تنزلات شيطانية بحسب ما فعلوه من مزامير الشيطان، وكلما بعدوا عن الله ورسوله وطريق المؤمنين قربوا من أعداء الله ورسوله، وجند الشيطان.

ففيهم من يطير في الهواء والشيطان طائر به، ومنهم من يصرع الحاضرين وشياطينه تصرعهم، وفيهم من يحضر طعاماً، وإداماً. ويملأ الإبريق من الهواء والشياطين فعلت ذلك. فيحسب الجاهلون أن هذه من كرامات أولياء الله المتقين، وإنما هي من جنس أحوال الكهنة والسحرة وأمثالهم من الشياطين، ومن يميز بين الأحوال الرحمانية والنفسانية والشيطانية لا يشتبه عليه الحق بالباطل.
وبالله التوفيق.

والله أعلم

وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم

ليست هناك تعليقات: