الأربعاء، أكتوبر 02، 2013

توثين المشاعر


توثين المشاعر :

 

المشاعر؛ فى أقرب صورها هى حالة نفسية تصيب صاحبها ،يجد أثر لها فى قلبه ،  فتنقل فى قلبه شعور بالحزن تارة و الفرح تارة و سعادة مطلقة غير مسببة تارة أخرى....الخ.

فتجعل القلب أسرع تقلبا فى أحواله ، فيكون كالمرجل حال غليانه ، فى سرعة التحول المفاجىء له ، و الانتقال بين الاحوال المختلفه .

فيكفى كلمة واحدة، أو نظرة عابرة ، بل مرور طيف أحيانا فقط ، ليصاب الواحد من بسهم من هذه المشاعر .

هذا النوع من المشاعر هى ميزة الكائنات الحية على الجمادات كافة، فهى مشاعر تراها فى الانسان و الطيور... و  كل كائن حى ، تارة قد ندركها و تارة قد تغييب عن عقولنا فى الاستيعاب لها ، لعدم القدرة على فهمها فقط ، و عدم القدرة على الاستيعاب لها ، لا يعنى بحال عدم وجودها .

و ما حال نملة سليمان، إلا صورة من هذه المشاعر بين الكائنات ، فى تحركها خوفا و جزعا على أخواتها من أن يدهسوا تحت أقدام الجند ، دون معرفة منهم بمواضع النمل

هذه احدى القصص ، من قصص كثير تناولها القران ، حال كل من يستمع لها يخرج بشعور مختلف عن الاخر ، فما بين شعور الخوف على الاخرين من النملة ، الى شعور الرحمة و شكر النعمه من نبى الله سليمان حال سماعه حديثها.


فكانت هذه ميزة المشاعر ، تلك المساحة الواسعه لكلا منا فى أن يترك العنان لقلبه لرسم الصورة التى يتخيلها فى ذهنه لتملأ عليه جوارحه و قلبه ، و ليست صورة مادية محددة لا يستطيع الانسان أن يخرج منها ، و كأنها اطار لوحة فقط ، له حدود معينه


لكن مع الوقت ، بدأت تزول هذه المشاعر ، مع انتشار المادية البحته ، من أجل مزيد تسليع للانسان ، و توثين للمشاعر ، لكى تتحول من جمالها اللامادى ، الى وثن مادى يستطيع تجار الانسان و مشاعره ، أن يصيغوه فى صورة محددة ، لكى يتاجروا بها فقط .


هذا الامر المحزن ، فى توثين المشاعر اصبح هو الصيغه السائدة فى الاعلام ، فمن برامج صناعة النجوم الشباب ، الى المسلسلات بتنوعها ، حتى طرق وضع مساحيق التجميل، تجد نفسك أمام تماثيل شمعيه فقط .

 

و ذلك من اجل حصر صورة المشاعر البشريه للفرح و الحزن و الحب و الكراهيه ..الخ ، فى صور ماديه محدده يستطيع بعد ذلك - صانع اوثان المشاعر البشريه - ان يتحكم فيها بسهوله ، و يحرك المتابع لها و المتأثر حتما لها بسهوله .

 

فانت بين صورة متكررة أمامك طوال الوقت، يوحى إليك ان هذه هى المشاعر ، وكيف يمكنك أن تعبر عنها  ، و كأنك اذا كنت تريد ان تكون شاب لك قبول فى المجتمع  عليك أن تتحدث بتلك الطريقه ، و أنت إذا كنت فتاه تريد أن يكون لك قبول فى المجتمع يجب أن تكون مشاعرك تظهر بتلك الصورة، و اذا اردت ان تحب فتاه يجب أن تحبها بهذه الصورة ، و انت اذا اردت ان تلفتى انتباه شاب يجب ان يكون بهذه الطريقة ..


فصارت المشاعر التى نتعامل بها بيننا  فى المجتمع ، ليست فى الحقيقة هى مشاعرنا ، بل هى مشاعر الممثلين فى المسلسلات و المغنيين فى برامج صناعة النجوم ، بل حتى صرخات الفرح ليست هى مشاعرنا بل هى تلك التى يطلقها الجمهور عندما يشير المخرج ( مايسترو المشاعر ) للجمهور بلافته ( ابتسموا تباكوا اضحكوا صفقوا ..الخ)



لو اخذنا مثال قريب و هى حالات الرومانسيه ، فالحب هو من ارقى  المشاعر البشريه ، لانه اعلى حالات القلوب التى يبلغ فيها القلب منتهاه من السعاده و الحزن ، فيقدم المحب أعز ما يملك،  و لو كان نفسه التى جنبيه للمحبوب ، و لا ينتظر مقابل الا فقط رضا المحب له ، أو قل فقط أن يشعر أن ذاك قد يرضى من يحب .


لو نظرنا الى تسليع هذه المشاعر ، ستجد أن المحب تحول الى صورة محددة من الجمال للوجه ، و أسلوب الكلام ، و أناقة الملابس ، و كذلك المحبوبه لابد أن تكون فى المشاعر الموثنه لها قدر معين من الجمال و اسلوب الحديث و ضحكات محدده مرسومه بدقه ، و جسد مصاغ على معييار ثابت ، و مساحيق تجميل بشكل محدد و أنف مرسومة على صورة متكرره


فمن منا فى الحقيقة يملك هذا الصورة  ، التى تقترب من الاوثان الشمعيه فقط ، فتتحول المشاعر هنا الى صورة مادية .. فاذا كنت تريد أن تحبها فعليك أن تكون  هذه صورتك ، و إن كنت تريدى أن يحبك فعليك أن تكونى فى تلك الصورة فقط .


و لو تخطى كلاكما هذه الصورة ، فليس من حقكما فى هذا العالم المادى أن تتمتعوا بمشاعركم ، لان المشاعر هى من حق فقط هذه الاوثان التى تشاهدوها فى الاعلام .


البعض يسقط ، و لو قلت الكثير لكان أقرب للصواب ، فالكثير اليوم يسقط فى هذا الفخ الاعلامى ، فلا يهتم  كل شخص على ابراز مشاعره كما هى على الحقيقه ، و لو قال عنها كل البشر أنها ساذجه ، بل يصب كل جهده لكى يظهر فى صورة المشاعر الموثنه فى الذهن من قبل ، فكل الجهد من أجل أن يشبه فلان الذى شاهده  ، و كل جهدها فى أن تشبه فلانه التى شاهدتها و الكل يصرخ حولها من فرط جمالها لعيون المعجبين .


أذكر أحد المواقف  التى كانت ذكرتها المذيعة الأمريكية الشهيره أوبرا وينفرى ، عندما كانت تخاطب جمهورها حول كيف يظهر الممثلات فى هذه الاناقه فى المجلات  التى تهتم بالمشاهير ، فعرضت حلقه خاصه حول هذا الامر ، فى ان صورة الغلاف الذى يعتقد البعض أنها مجرد صورة عفويه ، إنما قد تستغرق فى التقاطها حوالى أسبوع ، من أجل اختيار افضل وضعية لها ، و بالتالى النتيجة أن الجمهور يسعى لتقليد شىء من الصعوبه الكثير أن يتحقق دون وجود فريق عمل فى التصوير و الاضاءة و الملابس ..الخ ، من أجل ان يتشبهوا بصورة على غلاف مجلة .


لو تعاملنا مع مثال اخر ، يصيب كثير من الشباب ، فان كان الفتيات فى المشاعر الميل لهن الى الرومانسيه الهادئة ، فطبيعة الشباب انما تميل الى المادية فى المشاعر ، و هنا المثال الذى يدمر الكثير بدون أن يشعر تدريجيا و هو الافلام الاباحية

 

فالافلام الاباحيه من اعلى صور توثين المشاعر و المتاجرة بها  بمعنى الكلمه ، فهى تنقل صورة ذهنيه لدى الشباب أنه لا يمكنك أن تكون محبوب الا بهذه الصورة ، فتقتل فيه كل مشاعر الحب ، لتحوله الى اقرب من ماكينه حيوانيه فقط ، بل ادنى درجه من الحيوانات ، فتقتل فيه مشاعر فى الحب الغير مرئي تدريجيا ، لتوصف المشاعر فقط فى الصورة المادية التى يشاهدها ، و التى ترسخ فى ذهنه انه لابد ان يمتلك معايير جسديه محدده ليكون بذلك مستحق لصفة السوبر مان .


ثم تدريجيا يفقد شعور اللذه الذى كن يجده فى البدايه ، ليتحول الامر له الى مجرد بعض لحظات من التمتع فقط ، ثم فى النهايه الى حالة من التبلد العاطفى  فقط . بل انه يتطور الامر لدى البعض انه قد يتناول الطعام و هو يشاهد هذا النوع من الافلام، و هو لا يجد  أدنى تأثير لديه .


هذه هى اشكالية المشاعر عندما يتم توثينها فى قوالب مسبقه ، أنها تفقد الانسان ما لديه من ميزة عن الجمادات و هى القدرة على التنوع فى المشاعر فى القلب دون أن يكون هناك تكلف فيها  أو  صور محدده مسبقه فى الذهن .


تأخذ الانسان فى البداية مثل أصوات عروس البحر ، بصوت مبهج جميل ،فينطلق بدون وعي ، و هو فاقد القدرة على التمييز فى النظر الى حقيقة هذا الصوت و الوجه الجميل ، إلا أن يفيق وانيابها منغرسة فى عنقه و دمه يسيل على عنقه ، و لا أمل له فى النجاه ، فقد ترك نفسه لانياب عدوه دون أن يأخذ حذره.


و ليس هناك حل لتفادى هذا النوع من التوثين ، الا بتجنب الوسائل المادية التى ترسم صورة محددة لها ، و أن تترك المشاعر لدى البشر كمطلق يعبر عنه كل شخص بالاسلوب الذى يراه مناسب له ، و يوافق هواه فى قلبه . لا وفق ما يريد الاخرين أن يجعلوه يعبره عنها ، لكى يتم المتاجره بها فقط بعد ذلك .


مشاعرك ..هى انسانيتك ..

فعبر عنها بالصورة التى تراها أنت ..

لا التى يريد الاخرين أن يجعلوك فيها ..

فتفقد انسانيتك ..

وحريتك ..


26 ذو القعدة 1434

2-10-2013م.

ليست هناك تعليقات: