توثين المشاعر
توثين المشاعر
:
المشاعر؛
فى أقرب صورها هى حالة نفسية تصيب صاحبها ،يجد أثر لها فى قلبه ، فتنقل فى قلبه شعور بالحزن تارة و الفرح تارة و
سعادة مطلقة غير مسببة تارة أخرى....الخ.
فتجعل
القلب أسرع تقلبا فى أحواله ، فيكون كالمرجل حال غليانه ، فى سرعة التحول المفاجىء
له ، و الانتقال بين الاحوال المختلفه .
فيكفى
كلمة واحدة، أو نظرة عابرة ، بل مرور طيف أحيانا فقط ، ليصاب الواحد من بسهم من
هذه المشاعر .
هذا
النوع من المشاعر هى ميزة الكائنات الحية على الجمادات كافة، فهى مشاعر تراها فى
الانسان و الطيور... و كل كائن حى ، تارة
قد ندركها و تارة قد تغييب عن عقولنا فى الاستيعاب لها ، لعدم القدرة على فهمها فقط
، و عدم القدرة على الاستيعاب لها ، لا يعنى بحال عدم وجودها .
و ما
حال نملة سليمان، إلا صورة من هذه المشاعر بين الكائنات ، فى تحركها خوفا و جزعا
على أخواتها من أن يدهسوا تحت أقدام الجند ، دون معرفة منهم بمواضع النمل
هذه
احدى القصص ، من قصص كثير تناولها القران ، حال كل من يستمع لها يخرج بشعور مختلف
عن الاخر ، فما بين شعور الخوف على الاخرين من النملة ، الى شعور الرحمة و شكر
النعمه من نبى الله سليمان حال سماعه حديثها.
فكانت
هذه ميزة المشاعر ، تلك المساحة الواسعه لكلا منا فى أن يترك العنان لقلبه لرسم
الصورة التى يتخيلها فى ذهنه لتملأ عليه جوارحه و قلبه ، و ليست صورة مادية محددة
لا يستطيع الانسان أن يخرج منها ، و كأنها اطار لوحة فقط ، له حدود معينه
لكن مع
الوقت ، بدأت تزول هذه المشاعر ، مع انتشار المادية البحته ، من أجل مزيد تسليع
للانسان ، و توثين للمشاعر ، لكى تتحول من جمالها اللامادى ، الى وثن مادى يستطيع
تجار الانسان و مشاعره ، أن يصيغوه فى صورة محددة ، لكى يتاجروا بها فقط .
هذا
الامر المحزن ، فى توثين المشاعر اصبح هو الصيغه السائدة فى الاعلام ، فمن برامج
صناعة النجوم الشباب ، الى المسلسلات بتنوعها ، حتى طرق وضع مساحيق التجميل، تجد
نفسك أمام تماثيل شمعيه فقط .
و ذلك
من اجل حصر صورة المشاعر البشريه للفرح و الحزن و الحب و الكراهيه ..الخ ، فى صور
ماديه محدده يستطيع بعد ذلك - صانع اوثان المشاعر البشريه - ان يتحكم فيها بسهوله
، و يحرك المتابع لها و المتأثر حتما لها بسهوله .
فانت
بين صورة متكررة أمامك طوال الوقت، يوحى إليك ان هذه هى المشاعر ، وكيف يمكنك أن
تعبر عنها ، و كأنك اذا كنت تريد ان تكون
شاب لك قبول فى المجتمع عليك أن تتحدث بتلك
الطريقه ، و أنت إذا كنت فتاه تريد أن يكون لك قبول فى المجتمع يجب أن تكون مشاعرك
تظهر بتلك الصورة، و اذا اردت ان تحب فتاه يجب أن تحبها بهذه الصورة ، و انت اذا
اردت ان تلفتى انتباه شاب يجب ان يكون بهذه الطريقة ..
فصارت
المشاعر التى نتعامل بها بيننا فى المجتمع
، ليست فى الحقيقة هى مشاعرنا ، بل هى مشاعر الممثلين فى المسلسلات و المغنيين فى
برامج صناعة النجوم ، بل حتى صرخات الفرح ليست هى مشاعرنا بل هى تلك التى يطلقها
الجمهور عندما يشير المخرج ( مايسترو المشاعر ) للجمهور بلافته ( ابتسموا –
تباكوا – اضحكوا – صفقوا
..الخ)
لو
اخذنا مثال قريب و هى حالات الرومانسيه ، فالحب هو من ارقى المشاعر البشريه ، لانه اعلى حالات القلوب التى
يبلغ فيها القلب منتهاه من السعاده و الحزن ، فيقدم المحب أعز ما يملك، و لو كان نفسه التى جنبيه للمحبوب ، و لا ينتظر
مقابل الا فقط رضا المحب له ، أو قل فقط أن يشعر أن ذاك قد يرضى من يحب .
لو
نظرنا الى تسليع هذه المشاعر ، ستجد أن المحب تحول الى صورة محددة من الجمال للوجه
، و أسلوب الكلام ، و أناقة الملابس ، و كذلك المحبوبه لابد أن تكون فى المشاعر
الموثنه لها قدر معين من الجمال و اسلوب الحديث و ضحكات محدده مرسومه بدقه ، و جسد
مصاغ على معييار ثابت ، و مساحيق تجميل بشكل محدد و أنف مرسومة على صورة متكرره
فمن منا
فى الحقيقة يملك هذا الصورة ، التى تقترب
من الاوثان الشمعيه فقط ، فتتحول المشاعر هنا الى صورة مادية .. فاذا كنت تريد أن
تحبها فعليك أن تكون هذه صورتك ، و إن كنت
تريدى أن يحبك فعليك أن تكونى فى تلك الصورة فقط .
و لو
تخطى كلاكما هذه الصورة ، فليس من حقكما فى هذا العالم المادى أن تتمتعوا بمشاعركم
، لان المشاعر هى من حق فقط هذه الاوثان التى تشاهدوها فى الاعلام .
البعض
يسقط ، و لو قلت الكثير لكان أقرب للصواب ، فالكثير اليوم يسقط فى هذا الفخ
الاعلامى ، فلا يهتم كل شخص على ابراز
مشاعره كما هى على الحقيقه ، و لو قال عنها كل البشر أنها ساذجه ، بل يصب كل جهده
لكى يظهر فى صورة المشاعر الموثنه فى الذهن من قبل ، فكل الجهد من أجل أن يشبه
فلان الذى شاهده ، و كل جهدها فى أن تشبه
فلانه التى شاهدتها و الكل يصرخ حولها من فرط جمالها لعيون المعجبين .
أذكر
أحد المواقف التى كانت ذكرتها المذيعة
الأمريكية الشهيره أوبرا وينفرى ، عندما كانت تخاطب جمهورها حول كيف يظهر الممثلات
فى هذه الاناقه فى المجلات التى تهتم
بالمشاهير ، فعرضت حلقه خاصه حول هذا الامر ، فى ان صورة الغلاف الذى يعتقد البعض
أنها مجرد صورة عفويه ، إنما قد تستغرق فى التقاطها حوالى أسبوع ، من أجل اختيار
افضل وضعية لها ، و بالتالى النتيجة أن الجمهور يسعى لتقليد شىء من الصعوبه الكثير
أن يتحقق دون وجود فريق عمل فى التصوير و الاضاءة و الملابس ..الخ ، من أجل ان
يتشبهوا بصورة على غلاف مجلة .
لو
تعاملنا مع مثال اخر ، يصيب كثير من الشباب ، فان كان الفتيات فى المشاعر الميل
لهن الى الرومانسيه الهادئة ، فطبيعة الشباب انما تميل الى المادية فى المشاعر ، و
هنا المثال الذى يدمر الكثير بدون أن يشعر تدريجيا و هو الافلام الاباحية
فالافلام
الاباحيه من اعلى صور توثين المشاعر و المتاجرة بها بمعنى الكلمه ، فهى تنقل صورة ذهنيه لدى الشباب
أنه لا يمكنك أن تكون محبوب الا بهذه الصورة ، فتقتل فيه كل مشاعر الحب ، لتحوله
الى اقرب من ماكينه حيوانيه فقط ، بل ادنى درجه من الحيوانات ، فتقتل فيه مشاعر فى
الحب الغير مرئي تدريجيا ، لتوصف المشاعر فقط فى الصورة المادية التى يشاهدها ، و
التى ترسخ فى ذهنه انه لابد ان يمتلك معايير جسديه محدده ليكون بذلك مستحق لصفة
السوبر مان .
ثم
تدريجيا يفقد شعور اللذه الذى كن يجده فى البدايه ، ليتحول الامر له الى مجرد بعض
لحظات من التمتع فقط ، ثم فى النهايه الى حالة من التبلد العاطفى فقط . بل انه يتطور الامر لدى البعض انه قد
يتناول الطعام و هو يشاهد هذا النوع من الافلام، و هو لا يجد أدنى تأثير لديه .
هذه هى
اشكالية المشاعر عندما يتم توثينها فى قوالب مسبقه ، أنها تفقد الانسان ما لديه من
ميزة عن الجمادات و هى القدرة على التنوع فى المشاعر فى القلب دون أن يكون هناك
تكلف فيها أو صور محدده مسبقه فى الذهن .
تأخذ
الانسان فى البداية مثل أصوات عروس البحر ، بصوت مبهج جميل ،فينطلق بدون وعي ، و هو
فاقد القدرة على التمييز فى النظر الى حقيقة هذا الصوت و الوجه الجميل ، إلا أن
يفيق وانيابها منغرسة فى عنقه و دمه يسيل على عنقه ، و لا أمل له فى النجاه ، فقد
ترك نفسه لانياب عدوه دون أن يأخذ حذره.
و ليس
هناك حل لتفادى هذا النوع من التوثين ، الا بتجنب الوسائل المادية التى ترسم صورة
محددة لها ، و أن تترك المشاعر لدى البشر كمطلق يعبر عنه كل شخص بالاسلوب الذى
يراه مناسب له ، و يوافق هواه فى قلبه . لا وفق ما يريد الاخرين أن يجعلوه يعبره
عنها ، لكى يتم المتاجره بها فقط بعد ذلك .
مشاعرك
..هى انسانيتك ..
فعبر
عنها بالصورة التى تراها أنت ..
لا
التى يريد الاخرين أن يجعلوك فيها ..
فتفقد
انسانيتك ..
وحريتك
..
26 ذو
القعدة 1434
2-10-2013م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق